[center]دروس وعبر من حياة الرسول قبل البعثة
آ ـ الوقائع التاريخية
تدلنا الأخبار الثابتة عن حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة على الحقائق التالية :
1-
أنه ولد في أشرف بيت في بيوت العرب ، فهو من أشراف فروع قريش ، وهم بنو
هاشم ، وقريش أشرف قبيلة في العرب ، وأزكاها نسباً ، وأعلاها مكانة ، وقد
روى عن العباس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إن الله خلق الخلق ، فجعلني من خيرهم من خير فرقهم ، وخير الفريقين . ثم
تخير القبائل ، فجلني من خير قبيلة ، ثم تخير البيوت ، فجعلني من خير
بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً " .
ولمكانة هذا النسب
الكريم في قريش لم نجدها فيما طعنت به على النبي صلى الله عليه وسلم
لاتضاح نسبة بينهم ، ولقد طعنت فيه بأشياء كثيرة مفتراة إلا هذا الأمر .
2-
أنه نشأ يتيماً ، فقد مات أبو ه عبدالله وأمه حامل به لشهرين فحسب ، ولما
أصبح له من العمر ستى سنوات ماتت أمه آمنة فذاق صلى الله عليه وسلم في
صغره مرارة الحرمان من عطف الأبوية وحنائهما ، وقد كفله بعد ذلك عمه أبو
طالب حتى نشأ واشتد ساعده ، وإلى يتمه أشار القرآن الكريم بقوله : (
أَلَمْ يَجْدْكَ يَتِمَياً فَآوى )[ الضحى : 6] .
3- أمضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم السنوات الأربع الأولى من طفولته في الصحراء في
بني سعد ، فنشأ قوي البنية ، سليم الجسم ، فصيح اللسان ، جري الجنان ،
يحسن ركوب الخيل على صغر سنة قد تفتحت مواهبه على صفاء الصحراء وهدوئها ،
وإشراف شمسها ونقاوة هوائها .
4- كانت تعرف فيه النجابة من صغره ،
وتلوح على محياه مخابل الذكاء الذي يحببه إلى كل من رآه ن فكان إذا أتى
الرسول وهو غلام جلس على فراش جده ، وكان إذا جلس عليه لا يجلس معه على
الفراش أحد من أولاده ( أعمام الرسول ) ، فيحاول أعمامه انتزاعه عن الفراش
، فيقول لهم عبد المطلب : دعوا بني ، فوالله إن لشأناً.
5- أنه
عليه الصلاة والسلام كان يرعى في أوائل شبابه لأهل مكة أغناهم بقراريط
يأخذها أجراً على ذلك ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : "ما من
نبي إلاقد رعى الغنم " قالوا : وأنت يا رسول الله " قال " وأنا " وفي
رواية أخرى أنها قال : " ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم " فقال له
أصحابه : وأنت يارسول الله ؟ فأجاب : " وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط "
ثم لما بلغ من عمره خمساً وعشرين ، عمل لخديجة بنت خويلد في التجارة
بمالها على أجر تؤديه إليه .
6- لم يشارك عليه الصلاة والسلام
أقرانه من شباب مكة في لهوهم ولا عبثهم ، وقد عصمه الله من ذلك ، فقد
استفاض في كتب السيرة أنه سمع وهو في سن الشباب غناء من إحدى دور مكة في
حفلة عرس ، فأراد أنه يشهدها ، فألقى الله عليه النور ، فما أيقظه إلا حر
الشمس ، ولم يشارك قومه في عبادة الأوثان ، ولا أكل شيئاً مما ذبح لها ،
ولم يشرب خمراً ، ولا لعب قماراً ، ولا عرف عنه فحش في القول ، أول هجر في
الكلام .
7- وعرف عنه منذ إدراكه رجحان العقل ، ولصالة الرأي وفي
حادثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة دليل واضح على هذا ، هدمها
وتجديد بنائها ، وفعلوا ، فلما وصلوا إلى مكان الحجر الأسود فيما أختلفوا
أختلافاً شديداً فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود في مكانه ، وأرادت كل
قبيلة أن يكون لها هذا الشرف ، وأشتد النزاع حتى تواعدوا للقتال ، ثم
ارتضوا أن يحكم بينهم أول داخل من باب بني شيبة ، فكان هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا بحكمه ، فلما أخبر
بذلك ، حل المشكلة بما رضي عنه جميع المتنازعين ، فقد بسط رداءه ، ثم أخذ
الحجر فوضعها فيه ، ثم أمرهم أن يأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء ، فلما
رفعوه ، وبلغ الحج موضعه ، أخذه ووضعها بيده ، فرضوا جميعاً ، وصان الله
بوفور عقله وحكمته دماء العرب من أن تسفك إلى مدى لا يعلمه إلا الله .
8-
عرف عليه الصلاة والسلام في شبابه بين قومه بالصادق الأمين، وأشتهر بينهم
بحسن المعاملة ، والوفاء بالوعد ، واستقامه السيرة ، وحسن السمعة ، مما
رغب خديجة في أن تعرض عليه الأتجار بمالها في القافلة التي تذهب إلى مدينة
بصر كل عام على أن تعطية ضعف ما تعطي رجلاً من قومها ن فلما عاد إلى مكة
وأخبرها غلامها ميسرة بماكان من أمانته وإخلاصه ، ورأت الربح الكثير في
تلك الرحلة ، أضعفت له من الأجر ضعف ما كانت أسمت له ، ثم حملها ذلك على
أن ترغب في الزواج منه ، فقيل أن يتزوجها وهو أصغر منها بخمسة عشر عاماً ،
وأفضل شهادة له بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة له بعد أن جاءه الوحي في
غار حراء وعاد مرتعداً : كلا والله لا يخزنك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم
، وتحمل الكل ( الضعيف ) ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب
الحق .
9- سافر مرتين خارج مكة ، أولاهما مع عمه أبي طالب حين كان
عمره اثنى سنة ، وثانيها حين كان عمره خمساً وعشرين سنة . متاجراً لخديجة
بمالها وكانت كلتا الرحلتين إلى مدينة ( بصرى ) في الشام ، وفي كلتيهما
كان يسمع من النجار أحاديهم ، ويشاهد آثار البلا التي مر بها والعادات
التي كان عليها سكانها .
10- حبب الله إليه عليه الصلاة والسلام
قبيل البعثة بسنوات أن يخرج إلى غار حراء ـ وهو جبل يقع في الجانب الشمالي
الغربي من مكة ، على قرب منها ـ يخلوا فيه لنفسه مقدار شهر ـ وكان في شهر
رمضان ـ ليفكر في آلاء الله ، وعظيم قدرته ، واستمر على ذلك حتى جاءه
الوحي ، ونزل عليه القرآن الكريم .
ب ـ الدروس والعظات
يستطيع الباحث أن يخرج من دراسة الوقائع السالفة بالدروس والنتائج التالية :
1-
أنه كلما كان الداعية إلى الله ، أو المصلح الاجتماعي في شرف من قومه ،
كان ذلك أدعى إلى استماع الناس له ، فإن من عادتهم أن يزدروا بالمصلحين
والدعاة إذا كانوا من بيئة مغمورة ، أو نشب وضيع ، فإذا جاءهم من لا
ينكرون شرف نسبه، ولا مكانة أسرته الاجتماعية بينهم ، لم يجدوا ما يقولونه
عنه إلا افتراءات يتحللون بها من الاستماع إلى دعوته، والإصغاء إلى كلامه
، ولذلك كان أول ما سأل عنه هرقل أباسفيان بعد أن أرسل الرسول إلى هرقل
كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام هو وقومه : كيف نسبه فيكم ؟ فأجاب أبو سفيان
وهو يؤمذ على شركه:هو من أشرفنا نسباً ولما انتهى هرقل من أسئلته ، وسمع
جوابه عنها ، أخذ يشرح له سر الأسئلة التي توجه بها إليه حول محمد "رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له هرقل : سألتك كيف نسبه فيكم ؟ فزعمت
أنه من أشرافكم نسباً ، وكذلك لا يختار الله النبي إلا من كرام قومه ،
وأوسطهم نسباً .
صحيح أن الإسلام لا يقيم وزناً لشرف الأنساب تجاه
الأعمال ، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الذي يجمع بين شرف النسب وشرف الفعل ،
أكرم وأعلى مكاناً وأقرب نجاحاً ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام اذا فقهوا ".
2-
أن في تحمل الداعية آلام اليتم أو العيش ، وهو في صغره ما يجعله أكثر
إحساساً بالمعاني الإنسانية النبيلة ، وأمتلا بالعواطف الرحيمة تحومل الي
أن يكون لديه رصيد كبير من العواطف الإنسانية النبيلة التي تجعله يشعر
بآلام الضعفاء والبائسين ، ولا يوفر له هذا الرصيد شيء ، مثل أن يعاني في
حياته بعض ما يعانية أولئك المستضعفون كاليتامى والفقراء والمساكين .
3-
كلما عاش الداعية في جو أقرب على الفطرة ، وأبعد عن الحياة المعقدة ، كان
ذلك أدعى إلى صفاء ذهنه ، وقوة عقله وجسمه ونفسه ، وسلامة منطقة وتفكير ،
ولذلك لم يختر الله العرب لأداء رسالة الإسلام صدفة ولا عبثاً ، بل لأنهم
كانوا بالنسبة إلى من يجاورهم من الأمم التمدنة أصفي نفوساً ، وأسلم
تفكيراً ، وأقوم أخلاقاً ، وأكثر احتمالاً لمكاره الحروب في سبيل دعوة
الله ونشر رسالته في أنحاء العالم .
4- لا يتأهل لمركز الدعوة
وقيادتها إلا الذكي النبيه ، فالأغبياء والمتوسطون في نجابتهم أبعد الناس
عن جداره القيادة الفكرية ، الإصلاحية . أو الروحية . بل إن من سنن الحياة
أن يتمكن من القيادة في أية ناحية من نواحي الحياة عن جدارة واستحقاق
الأغبياء والمضطربون في تفكيرهم . والشاذون في آرائهم ، وإذا وأتت الصدقة
أو الظروف واحداً من هؤلاء . فحملته إلى مركز القيادة . فسرعان ما يهوى
إلى الحضيض ويتخلى عنه قومه بعد تدلهم على غيارته ، أو شذوذه . أو أضطراب
تفكيره .
5- ينبغي للداعية أن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه ، ولا ذلة ولا مهانة .
إن
الداعاة الصادقين الشرفاء يربؤون بأنفسهم أن يعيشوا من صدقات الناي
وأعطياتهم . وأية كرامة تكون لهم في نفوس قومهم بعد مكشوفاً ، بذل السؤال
والاستجداء ولو لم يكن صريحاً مكشوفاً ، بذل السؤال والاستجداء ولو لم يكن
صريحاً مكشوفاً ، فإذا وجدنا من يدعي الدعوة والإرشاد . وهو يستكثر من
أموال الناس بشتى أنواع الحبل . فإنا نجزم بمهانة نفسه في نفسه ، فكيف في
نفوس قومه وجيرانه . ومن أرتضى لنفسه المهانة ، فكيف يستطيع أن يدعو إلى
مكارم الأخلاق . ويقف في وجه الطغاة والمفسدين ، ويحارب الشر والفساد .
ويبعث في الأمة روح الكرامة والشرف والاستقامة؟
6- إن استقامة
الداعية في شبابه وحسن سيرته ، أدعى إلى نجاحه في دعوته إلى الله ، وإصلاح
الإخلاص ، ومحاربة المنكرات ، إذا لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه
الشخصي قبل قيامه بالدعوة ، وكثيراً ما رأينا أناساً قاموا بدعوة الإصلاح
، وبخاصة إصلاح الأخلاق ، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم ما
يذكرونه لهم من ماض ملوث ، وخلق غير مستقيم ن بل إن هذا الماضي السيء يكون
مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة ، بحيث يتهمون بالتستر وراء دعوة
الإصلاح لمآرب خاصة ، أو يتهمون بأنهم ما بدؤوا بالدعوة إلى الاصلاح إلا
بعد أن قضوا لبانتهم من ملذات الحياة وشهراتها ، وأصبحوا في وضع أم عمر لا
أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عرض أو مال أو شهرة أو
جاه .
أما الداعية المستقيم في شبابه ، فانه يظل أبداً رافع الرأس
ناصح الحبين ، لا يجد أعداء الإصلاح سبيلاً إلى غمزه بماض قريب أو بعيد ،
ولا يتخذون من هذا الماضي المنحرف تكأة للتشهير به ، ودعوة الناس إلى
الاستخفاف بشأنه.
نعم إن الله يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق
وإخلاص ، ويمحو بحسناته الحاضرة سيآته المنصرمة ، ولكن هذا شيء غير
الداعية الذي ينتظر لدعوته النجاح إذا استقامت سيرته وحسنت سمعته .
7-إن
تجارب الداعية بالسفر ، ومعاشرة الجماهير ، والتعرف على عوائد الناس
وأوضاعهم ومشكلاتهم ، لما أثر كبير في نجاح دعوته ، فالذي يخالطون الناس
في الكتب والمقالات دون أن يختلطوا بهم على مختلف اتجاهاتهم ، قوم مخفقون
في دعوة الإصلاح ، لا يستمع الناس اليهم ، ولا تستجيب العقول لدعوتهم ،
لما يرى فيهم الناس من جهل بأوضاعهم ومشكلاتهم ، فمن أراد أن يصلح
المتدينين ، عليه أن يعيش معهم في مساجدهم ، ومجالسهم ، ومجتمعاتهم ، ومن
أراد أن يصلح حال العمال والفلاحين ، عليه أن يعيش معهم في قراهم ،
ومصانعهم ، ويؤاكلهم في بيوتهم ، ويتحدث اليهم في مجتمعاتهم ، ومن أراد أن
يصلح المعاملات الجارية بني الناس ، عليه أن يختلط بهم في أسواقهم ،
ومتاجرهم ، ومصانعهم ، وأنديتهم ، ومجالسهم، ومن أراد أن يصلح الأوضاع
السياسية ، عليه أن يختلط بالسياسيين ، ويتعرف إلى تنظيماتهم ، ويستمع
لخطبهم ، ويقرا لهم برامجهم وأحزابهم ، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون
فيها ، والثقافة التي نهلوا من معينها ، والاتجاه الذي يندفعون نحوه ،
ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم ، وكيف يسلك في إصلاحه معهم بما
لا يدعوهم إلى محارته عن كره نفسي ، واندفاع عاطفي.
وهكذا يجب أن
يكون للداعية من تجاربه في الحياة ، ومعرفته بشؤون الناس ، ما يمكنه من أن
يحقق قول الله تعالى : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ
وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ " [ النحل : 125 ] ، وما أبدع القول المأثور :
خاطبوا الناس على قدر عقولهم ، اتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ .
8ـ
يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها
بنفسه ، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه ، وتصفو فيها نفسه من كدورات
الأخلاق الذميمة ، والحياة المضطربة من حول ، ومثل هذا الخلوات تدعوه إلى
محاسبة نفسه أن قصرت في خير ،، أو زلت في اتجاه ، أو جانبت سبيل الحكمة ،
أو أخطأت في سبيل ومنهج أو طريق ، أو أن غمست مع الناس في الجدال والنقاش
حتى أنسته تذكر الله والأنس به وتذكر الآخرة ن وجنتها ونارها ، والموت
وغصصه وآلامة ، ولذلك كان وتذكر التهجد وقيام الليل فرضاً في حق النبي صلى
الله عليه وسلم مستحياً في حق غيره ، وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة
هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته ، وللخلوة والتهجد والقيام لله
بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها ، وقد كان
إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول في اعقاب تهجده وعبادته : نحن في لذة لو
عرفها الملوك لقاتلونا عليها .
وحسبنا قول الله تبارك وتعالى مخاطباً
رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحياً ( يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ ، قُمِ
الّليلَ إِلا قَلِيلأ نِصْفَهُ أَو انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَو زِدْ
عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَولا
ثَقِيلاً ، إِنَّ نَاشِئَةَ الليلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأًً وَأَقْوَمُ قِيلا
) [ المزمل 1ـ7] .[/center]