[center]من الآيات الجامعة للأحكام ما جاء في قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله
نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } (النساء:58)، وقد وصف القرطبي هذه
الآية، بأنها "من أمهات الأحكام، تضمنّت جميع الدين والشرع" .
هذه
الآية الكريمة جاءت عقب آيات سبقتها تتحدث عن أحوال الكفار والمنافقين،
كقوله تعالى: { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } (النساء:37)، وقوله
سبحانه: { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر } (النساء:38)، وتتحدث أيضاً عن بعض من صفات أهل الكتاب، كما في قوله
سبحانه: { يحرفون الكلم عن مواضعه } (النساء:46)، وقوله عز وجل: { يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله }
(النساء:54)، وكل ذلك يشتمل على خيانة أمانة الدين، والعلم، والحق،
والنعمة، فبعد أن بين سبحانه شيئاً من صفات هؤلاء وأولئك، عطف على ذلك
مخاطباً عباده المؤمنين بأداء الأمانة، والحكم بالعدل .
هذا
ما نحا إليه الرازي وتابعه ابن عاشور في بيان مناسبة الآية لما سبقها من
آيات. وقد ذكر أبو حيان وجهاً آخر للمناسبة بين الآية وما سبقها، وهو أن
الله سبحانه لما ذكر وَعْد المؤمنين العاملين الصالحين، وذلك في قوله
سبحانه: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا }
(النساء:57)، نبه سبحانه بعدُ على هذين الأمرين الشريفين: أداء الأمانة،
والحكم بالعدل .
ومهما
يكن الأمر، فإن الآية الكريمة أمرت بأمرين رئيسين: أحدهما: أداء الأمانة.
وثانيهما: الحكم بالعدل. فأما بالنسبة لأداء الأمانة، فالذي اتجه إليه أغلب
المفسرين هنا، أن الخطاب في الآية عامٌّ، يشمل جميع الناس، وأن المقصود بـ
(الأمانة) مفهومها العام، الذي يشمل جميع الأمانات، وليس مفهومها الخاص،
فهي تشمل الأمانة في العبادات، والأمانة في المعاملات، والأمانة الخاصة،
والأمانة العامة، والأمانة مع المسلم ومع غير المسلم، ومع الصديق والعدو،
ومع الكبير والصغير، ومع الغني والفقير .
يقول القرطبي بهذا
الصدد: والآية "عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من
الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الحكومات...وتتناول مَن
دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم
في نازلة ما، والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى" .
ونحو هذا ما قرره الرازي من
أن "معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه، أو مع سائر العباد، أو مع نفسه،
ولا بد من رعاية الأمانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة"، ثم شرع يفصل في
معنى الأمانة في كل قسم من هذه الأقسام .
ويؤكد ابن عاشور هذا العموم والشمول، فيقول: "والخطاب لكل من يصلح لتلقي هذا الخطاب، والعمل به من كل مؤتمن على شيء" .
وممن
قال إن (الأمانة) في الآية عامة جمع من الصحابة، منهم: البراء بن عازب ، و
ابن مسعود ، و ابن عباس ، و أبي بن كعب ، قالوا: الأمانة في كل شيء: في
الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. ورُوي في
هذا المعنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن
يمسك الأمانة .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة ...)، وذكر منهن (أداء الأمانة)، فقيل:
يا رسول الله! وما أداء الأمانة، قال: ( الغسل من الجنابة، إن الله لم
يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها )، قال الهيثمي : رواه الطبراني في
"الكبير" وإسناده جيد. وهذا يدل على أن المقصود من أداء الأمانة ليس معناها
الخاص، بل معناها العام .
وإذا كان أكثر المفسرين قد ذهب إلى أن مفهوم الأمانة في الآية عام يشمل أمانة الدين والدنيا، فإن الطبري اختار
أن الخطاب في الآية لولاة الأمور فحسب، قال بعد ذكره للأقوال التي قيلت في
الآية: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: هو خطاب من
الله ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره". ثم دلل على
اختياره بالآية التالية لهذه الآية. غير أنه لم ينف جواز كون الآية عامة في
أمانة الدين والدنيا .
ولا
شك أن حمل الخطاب في الآية على العموم أولى، من حملها على ولاة الأمور
فحسب؛ لأن الأصل في خطاب القرآن أن يكون عاماً، ولا يُخص إلا بدليل معتبر،
يُخرج العموم عن دلالته. كما أن الحمل على العموم أقرب إلى قصد الشرع من
وضع التكليف؛ وأيضاً فإن مجيء لفظ (الأمانة) بصيغة الجمع { الأمانات }، يدل على تعدد أنواعها، وتعدد القائمين بحفظها .
ويتحصل
على ضوء ما تقدم، أن المقصود بـ { الأمانات } في الآية العهود التي عُهد
بها إلى الإنسان وأُمر بالوفاء بها، وهي عهود يتعهد بالتزامها، فتصير
أمانات في ذمته .[/center]